الأربعاء، 2 مايو 2012

بداية عند النهاية

غالباً ... تبدأ حكاية أي إنسان منذ ولادته و تنتهي عند وفاته
حكاية سالى زهران بدأت منذ موتها ، و تستمر الحكاية ،ولكن من خلال شخوص مختلفة
وكل ما علمته عن الراحلة نقلته إلى هذه المدونة
فقط ..إلى من يهمه الأمر
إلى من يهمه القصة غير المحكية

تحياتي

الثلاثاء، 1 مايو 2012

القتل بعد الوفاة..

(هذه قصة واقعية بنسبة 100% حقيقية بنسبة 80 % وهي إهداء مني إلى روح الشهيدة العظيمة صاحبتها)
..................
طول العمر العسكر عسكر.. بس الناس؟ ناس كانت ناس!
(كوثر مصطفى)
..................

"حياة مملة"
عندما مات والدها فقدت أعز صديق لديها.. تمنت الموت لأول مرة في حياتها.. فلم تجد عزائها إلا في اِنطوائها في غرفتها بالساعات.. شغلت وقتها بالقراءة.. قراءات كثيرة جعلتها تغير من تفكيرها.. ثبتتها جيداً بعدما تعارفت على أصدقاء من العاصمة تحاورهم ويحاورونها.. حتى استقر لديها فكر وشخصية واضحتين..

خلعت الحجاب الذي وجدت نفسها في البداية تلبسه مع اللابسات.. وعادت لتندمج مع الناس وهي أكثر حيوية وإشراق عن ذي قبل, فقالوا عنها في مجتمعها المنغلق النمام الذي يبعد عن العاصمة مئات الكيلومترات.. أنها جـُنت بعد وفاة والدها.. لأنها كانت تردد كلاماً عن قبول الآخر, ناهيك عن خلعها للحجاب..
أنت تعلم بالطبع أنه من الطبيعي أن تبدو مريضاً وسط المرضى.. ومن الجنون أن تبدو سليماً بينهم!

لها أخ يصغرها بعام.. يتدرب على رجولته المبكرة بمظاهرها, من أوامر ونواهي من خلالها.. لكنها تقاوم.. وأحياناً تمتثل أمها لما تريد.. فتنكسر قليلاً شوكة الرجل الصغير..

بين مدينة تحصي عليك أنفاسك يعيش جسدها.. وعاصمة تلهث من الجري والركض.. -صار فيها تقبل الآخر حتمية تجارية أكثر منها فكرية-.. يعيش قلبها..

تنتظر أن تمر بها شهور الدراسة المملة في مدينتها.. حتى تذهب مع أسرتها إلى بيتهم في العاصمة..فتخرج وشعرها يداعبه الريح إلى جلسات المقاهي.. مع أصدقاء من مختلف الأفكار السياسية والدينية..
حيث الملحد صديق للإخواني.. صديقة وجودية مرتبطة عاطفياً بصديق قومي عروبي!

تشعر أن حياتها في مدينتها الأصلية مجرد جحر كبير.. حيث يمكنك اِعتبار شخصين كخصمين لو اختلفا في ترديد تحية الإسلام!

تمر بها الأيام في العاصمة وهي منطلقة, متحدثة, بشوشة, مرحة.. خلاقة للأفكار.. حتى تعود من جديد لمدينتها, تسبقها كئابتها.. وتعيش على أمل أن تذهب لتستقر قريباً في العاصمة, بعد أن تجد عمل مناسب, والأهم أن تنجح في إقناع أم مكلومة لا حول لها ولا قوة بهذا, وأيضاً أخ ذكوري متسلط..
....................


"ثورات مكبوتة"

تتحمس لأخبار على النت عن تظاهرات قادمة..
عالمها المغلق في تلك المدينة التي لا يجوز فيها التنفس.. هو الموبايل والفيسبوك!
حتى يأتي يوم الثورة الموعود..
تقرأ أخباراً عن صحوة مصرية, تشاهد فيديوهات عن ثورة حقيقية..
تهاتف أحد الأصدقاء هنالك.. فتعلم منه أن الكثير من أقرب الأصدقاء لديها الآن يـُضربون وغيرهم مختفون.. ربما اِعتقلوهم أو قتلوهم!
لا تشعر بنفسها وهي تهرول لحقيبتها لتلقي بها ببعض الملابس متعجلة.. من أجل السفر للعاصمة.. فمدينتها لن تشعر بشيء.. وكأنها جمهورية مستقلة عن الدولة!
حتى يعترضها صياح أمها التي ظلت تبكي بحجة أنها تخشى عليها.. تخشى أن تفقدها..
الفتاة تحاول أن تطمئن الأم.. لكن لا فائدة..
فيتدخل الرجل الصغير ليمنعها.. يجذبها لغرفتها..
تقاوم بضعفها الأنثوي.. لكنه يتغلب عليها..
يغلق عليها الباب بالمفتاح.. تصرخ وتطرق الباب كثيراً..
لن يفهموها أبداً!
لن يفهموا مدى شعورها بالخزي والعار.. وخير أصدقائها يتعرضون لأشرس الهجمات الآن وهم يقاومون النظام المستبد.. بكل شرف وشجاعة!
هي الآن عاجزة عن الثورة الصغرى ضد تحكم أهلها..
تتوسل أكثر لأخيها من خلف الباب..
فيخبرها أنها لن تذهب إلى العاصمة إلا على جثته!
فتخبره إنها سوف تذهب لأبعد من العاصمة على جثتها هي..
لم يهتما بها وظنا أنها تهذي أو فقط تهدد..
سالت منها الدموع أنهاراً, وهاتفت أقرب أصدقائها لتخبرهم بكلمة واحدة: سامحني!
وتذهب لتقف على إفريز الشرفة العريض..

الهواء البارد يلفح وجهها ويعبث بشعرها في رعب وقسوة.. الأسفلت يبعد عن قدميها حوالي 30 متر!

لا يوجد أحد في الشارع في هذه الساعة المتأخرة..
تنظر لأعلى, إلى السماء التي تبدو وكأنها لا تفرق كثيراً عن فراغ الأرض!
وعندما يسقط نظرها للأرض من جديد تكاد تسقط!
لأنها ليست خائفة من الموت, بل وتريده أيضاً.. اِستطاعت أن تتماسك وتظبط وقفتها قليلاً على إفريز الشرفة..

الآن ستضحي بحياتها.. من أجل الثورة والغضب على كل شيء..
على أهالي حمقى متحكمين..
على مجتمع فاسد نمام يتظاهر بالتدين وهم شياطين مصغرين يقضون أوقاتهم في النميمة والإيحاءات الجنسية وكل أنواع القذارة!
على نظام اللصوص الحاكم..

تحكم أسري فاسد..
تحكم مجتمعي فاسد..
تحكمي ديني فاسد..
تحكم سياسي فاسد..
كل هذا يعادل حياتها..
ستجعل روحها الآن تخاصم جسدها..
ستذهب للأبد..
ولن يكفي أمها أن تبكي عليها طيلة حياتها حتى تدرك المأساة التي قد تتكرر في أسرة أخرى لقمع آخر..
ستدرك الأم الآن مدى سذاجتها..
لقد حبستها لأنها تخاف عليها.. لكن الفتاة ستثبت لها الآن أنه لا قيمة للإنسان وهو عبد مسلسل, لا قيمة للإنسان إلا بحريته..
وأنت أيها الأخ.. أيها الذكوري المتحكم الصغير.. فلتبكِ عمرك بأكمله! فلن يعادل هذا ذرة ندم عن جرم غبائك وتمثيلك لذكورية جاهلة ورثتها بحماقة عن مجتمعك, وأنت لم تهتز شعرك برأسك حين علمت أن بلدك تنتفض من أجل طاغية!

فلتفعلي الآن أيتها الباسلة ما يجبن عن فعله أشجع الرجل وأتقاهم.. الذين يلبسون روح التدين ليداروا جبنهم وخستهم!
أردتي أن تموتي لأجل الثورة.. فلتفعلي هذا لأجل كل الثورات لا فقط ضد الفساد السياسي..
اِفعليها.. وكوني شهيدة لكل قذارات المجتمع.. عله يفيق..
اِفعليها الآن..

تنظر إلى الأرض وتبتسم..
وتدفع جسدها ليسبح في الهواء..
تشعر أن حياتها كلها تمر عليها سريعاً في الثانية التي تركت فيها جسدها لسلطة الجاذبية الأرضية.. طالعت وجه أبيها وهو يهرول نحوها.. ثم يحتضنها وقت ارتطام جسدها بالأرض!
وتبتسم..

.................
"القتل بعد الوفاة"
لم يصدق الجميع ما حدث..
وعندما صدقوا وبكوا وهدأوا بدأ التزييف من جديد..

أخوها رآها الآن كمنتحرة.. كافرة بمقاييس مجتمعه.. ومقاييسه هو بالطبع..
أصدقاؤها في مدينتها قالوا أنهم لا يريدون أن يقتنعوا بأنها ألقت نفسها لأن هذا يجعلها منتحرة كافرة لا شهيدة وبالتالي لا تجوز عليها الرحمة..
صورتها البريئة الملائكية التي انتشرت في كل أنحاء العالم كشهيدة قتلها العسكر.. حمست كل الشباب أن ينقضوا أكتر على كلاب النظام..
حتى انتصروا..
لكن هذا لا يعني شيئاً مع أكثر البشر خسة.. هم يقولون أن الحقيقة أنها منتحرة, وبالتالي هي كافرة, وبالتالي لا يجوز الترحم عليها.. حتى لو حصلنا على حريتها بسببها..
فتلك هي الخسة الدينية في أقذر مثال!
كمثل مجموعة من الشباب العابث يموت أحدهم.. فيتجه الباقي للتدين.. فيكفي أن يذهب أحد منهم للنار ليكي يلقي بالآخرين إلى الجنة!
وصار لسان الحال: بورك من يذهب إلى النار لكي يرينا طريق الجنة..
إنهم قرود لم تتطور بعد.. بل أحط من ذلك.. ولا يدركون أنهم كذلك..
هم يصرحون بحقيقة موتها.. ثم يزيفون حقائق الاحترام.. ويفخرون بأنهم كلاب ناهشة!
لو فكروا قليلاً لعلموا أنها أعظم من أي شهيدة.. ولم تقتل نفسها إلا بعد أن قتلوها هم أولاً!
لم تقتل نفسها من أجل ثورة واحدة.. بل من أجل كل الثورات التي يحتاجها الوطن..
لو فكروا قليلاً لعلموا أنها أشجع من أي فأر جبان مثلهم.. يتشبث بالحياة بكل وضاعة وشهوة.. مع تبريرات دينية..
ذهبوا بها إلى النار.. وعاشوا هم, منتظرين الجنة!
أي جنة يمكنها أن تستقبل هؤلاء الأوغاد الذين يكفرون فتاة كهذه؟؟

الأخ يدرك إن الانتحار عار لن يـُمحى..
يمكنه الآن أن يزيف الحقيقة..
وأن يجعل الناس لا تعتقد بكفرها لأنها ماتت منتحرة.. وأن يجعلها شهيدة سياسة فقط.. وأن يبرأ نفسه عما اقترفه في حقها..
هي فعلاً ماتت من أجل الثورة..
لكنها ليست الثورة السياسية وحدها..
ثورة ضد أهالي فاسدين ونظام سياسي فاسد ومتدينين فاسدين ومجتمع مريض..

ولما انتشرت الحقيقة في تلك المدينة الصغيرة.. صارت كذبة أنها ماتت في قلب ميدان العاصمة على أيدي العسكر لم تعد تجدي..
الآن يمكنك أيها الرجل الصغير أن تدعي أنها ماتت في مدينتها بعد اِختناقها بتأثير قنابل مسيلة للدموع!
ويمكنك أن تضيف لاحقاً أنها ماتت مختنقة نتيجة ذلك.. في بيتها بعدما عادت!
ثم عد لتأتي بكذبة جديدة أخرى أنها حاولت القفز من شرفتها إلى شرفة أخرى فسقطت..
حتى لا تبدو أمام الناس ككافرة..
وكذلك فعل مرضى المتديينين في البلاد.. نشروا صورة لها بالحجاب ليقولوا أنها ماتت على هذه الصورة.. في كذب وحقارة مستمرين!
وكأنهم يرون الله طفلاً ساذجاً يضحكون عليه بأنها ماتت محجبة, فلتدخلها الآن الجنة..
مجتمع مريض منافق..
والعلمانيين متشبثين بشدة بصورة وفاتها وهي بدون حجاب..
يفخرون بشهيدة غير محجبة.. وكأنها منهم..
كما يفخر الاسلاميون بشهيدة محجبة.. وكأنهم منهم..
كما تفعل كل الشعوب بصورة المسيح.. اليابانيون يرسمونه أسيوي الملامح, والزنوج يرونه زنجياً!
نفس الأفكار البدائية تتكرر..

تلك الفتاة رأيت فيها وطن.. يحاولون الآن إجهاض ثورته وتضحيته بأغلى أرواح شبابه.. ضد نظام فاسد آثاره لا تزال باقية..
رأيت فيها وطن.. كل يجذبه لناحيته.. إسلامي تارة وعلماني تارة..
لم ينظر أحد إلى تلك الفتاة على أنها شهيدة مصرية –فقط- ماتت بعد أن أطلقت صرخة عظيمة ضد كل أنواع الفساد والتحكم في المجتمع..
ماتت من أجل أن نفيق, ومن أجل أن تتحرر وتتحرر.. ولا نزال نمارس قتلها حتى الآن!
...............


ملحوظة هامة:
التدوينة السابقة تم نسخها بالكامل من مدونة عاشوريات
 

 http://3asoryat.blogspot.com/2011/02/blog-post_18.html


مدونة رائعة و كاتب مميز

سالي زهران ما بين شرفة بيتها و بين ارتطامها بسطح صلب أسكتها للأبد..ويكفي القدر قسوة أنه قدر


( أنا و سالي في " الفسحة"... فبراير 2002)
 
لازلت أصرّ على أن الجملة الأولى هي دائماً الأصعب. لن أبحث عن مقدمة مناسبة، و كعادتي سأبدأ الحكى هكذا... من أي نقطة.

قاعة فندق النيل، يوليو 2009... انقطع التيار الكهربائي اثناء عرس لصديقة لنا. تقف بجواري(بالقرب من " الكوشة") فتاة متأنقة. تهمس في أذني " تيجي نزغرط ف الضلمة؟" أجيبها: " رئيس القسم واقف جنبنا يا بنتي، هتفضحينا" يضحك هو و يجيب : " خدوا راحتكوا". تعلو زغاريدنا ممتزجة بصيحات الشباب الذين اصطفوا معنا بجوار العروسين لنقوم بعمل " الدي جي" لحين عودة التيار الكهربي. نخرج سويا من العُرس بصحبة والدتها و أختي لنبدأ رحلة انتظار " تاكسي" لنعود لبيوتنا. الشارع مزدحم و لا يوجد سوى الانتظار. تقترح: " طيب ما تيجوا نشرب عصير قصب على ما يجي تاكسي". نذهب لأقرب عصّارة و نقف "ندردش". توصيني والدتها بعدة أشياء يجب أن أتذكرها قبل سفري للولايات المتحدة ، فقد سافرت هي قبلي لنفس الولاية التي عشت بها قرابة عام، و تؤكد سالي على أننا سنلتقي هناك، لانها ستكون في نيويورك في خلال شهر.

كان هذا آخر لقاء لي بسالي مجدي كما عرفتها، أو سالي زهران كما يعرفها الجميع الآن بهذا الإسم. قيل شهيدة. و قيل انتحرت و كافرة و لا يجوز عليها الرحمة. و قيل " ربنا وحده يفصل ف أمرها لأنها لم تطع أولي الأمر من أهلها و هي كدة ميتة كافرة برده" و قيل موتها مريب و مشكوك فيه. و قيل موتها جاء رحمة و ستر " انتي ما تعرفيش هي بقت ايه، أصلك كنتي برة" و قيل ارتدت الحجاب ثم تركته. و أختلف الفقهاء أن العكس تماما هو ما حدث و أنها لم تكن محجبة في الأساس و لكنها ماتت على دين محمد، مرتدية الحجاب فلا يجوز نشر صورها بدونه. و قيل و قيل و قيل... و لن يملّ الناس من القول و النقد و إصدار الأحكام ببساطة من ينعم بالجهل... جهله بهذه الفتاة التي كنت و سأظل دوما أحمل لها كل مشاعر الحب و التقدير.


عرفتها طفلة تصغرني بثلاث أعوام أثناء رحلتنا التعليمية بمدرسة اللغات بسوهاج. نلتقى في " الفسحة" عند مدخل " مبنى ثانوي" أو " تحت النخلة اللي جنب الكانتين"، نثرثر و نضحك في مجموعات كبيرة، و نمارس هوايتنا المفضلة في مطاردة بعضنا البعض بزجاجات المياه الغازية، بعد وضع قطعة " بونبون لارنو" بداخلها و رجّها جيداً قبل بدء المعركة. عرفتها في حفلات تكريم الفائقين بالمدرسة. تنتظرني حتى أتسلم شهادة التفوق في النشاط لتوقع عليها " للذكرى" و تمتنع عن التوقيع على شهادات التفوق العلمي " عشان يمكن تبروزيها". عرفتها مرحة و مليئة بالصخب في الحفلات و الرحلات. عرفتها ودودة مع من زارها في بيتها. عرفتها فتاة اجتماعية من الطراز الأول، فتجد لها أصدقاء من مختلف الأعمار و الفئات الإجتماعية. عرفتها فتاة لا تعرف اليأس و لا تستسلم لحزن. لازلت أذكر جلستها في العزاء يوم وفاة والدها، و كانت في عامها الجامعي الأول، و هي تبتسم لنا و تداعبنا جميعا حتى علت ضحكاتنا بالفعل، فلم تحب أبداً تلك المواساة التي لن تعوضها عن خسارتها و لن تعيد ما كان، فحبست حزنها داخلها و فاجأتنا بابتسامتها المعهودة و ضحكتها العالية. عنيدة، و جريئة لأبعد حدّ... و لا تقبل أن " حد يدوس لها على طرف" و إلا " تبقى أمه داعية عليه".

لم تكن علاقتي بها علاقة صداقة حميمة، فلا أعرف شيئا عن تفاصيل حياتها الشخصية، و لا هي تعرف عن حياتي شئ. لكن علاقتنا كانت دائما طيبة و مليئة بحب و إحترام متبادلين، و كان بيننا " عِشرة". كانت الوحيدة من بين صديقاتي، و لازالت الوحيدة، التي تناديني بـ" سومة". عرفتها قارئة جيدة، تهتم بشكسبير منذ أن كانت في المرحلة الإبتدائية. عرفتها طالبة بالجامعة، في نفس الكلية و نفس القسم الذي درست به. أتذكر طلبها ذات يوم" عايزة احضر لك محاضرة، نفسي اشوفك و انتي كبيرة كدة و واقفة بتشرحي للعيال يا سومة". أتذكر نظرات الطلاب لها يوم دخلت معي قاعة المحاضرات و إمتعاض الفتيات و تعبيرات وجوههن لرؤية مظهرها " المختلف" و شكل حجابها الغريب، أو هكذا رأينه... ربما فقط لأنها كانت تختلف عنهن و عن " النمط" المتعارف عليه الذي لا يردن، و لا يقدرن على، تركه أو تغييره. أتذكر نظرتها لي يومها و تلك الابتسامة الواثقة، و قد تجاهلت تلك الهمهمات تماماً و جلست بإعتداد في الصف الأول من القاعة لتستمع لدرس يمكنها هي شخصياً أن تلقيه على الطلاب بشكل أفضل مني.

جمعة الغضب، يناير 2011... يدقّ جرس الهاتف بعد صلاة المغرب بقليل و يأتيني صوت رحاب متهدجاً، " هي سالي مجدي ماتت؟" ..." بيقولوا انتحرت" ... " بس يا بنتي بلاش تخريف، سالي مين اللي تنتحر". أغلق الهاتف و معه فكرة موت سالي من الأساس. و أتابع شاشات التليفزيون في إصرار مني لتجاهل ذلك الخبر، و استيعاب ما يجري في القاهرة و الاسكندرية و السويس ، و التحايل على قلقي على من أحب و لا توجد أي وسيلة اتصال بهم. و لكن خبر وفاتها بدا منطقياً وسط كل ما يحدث، و تأكد لي بالفعل أنها سقطت من شرفة منزلها...

حتى يومي هذا، لا يشغل تفكيري سوى لحظات معدودة، يمكن أن تكون قد دامت دهراً عليها... سالي ما بين شرفة بيتها و بين ارتطامها بسطح صلب أسكتها للأبد. سالي، التي عرفتها طفلة و شابة... تهوي... هكذا بلا مقدمات و لا سابق إنذار. بم شعرت؟ هل صرخت، أم أسكتتها صدمة المفاجأة؟ هل علمت أنها النهاية، أم حاولت التشبث بأي شئ يبقيها بيننا؟ هي لم تُرد ذلك... و ربما لم تتوقعه أبداً... و كنت أثور بشدة في وجه كل من ينهرني كلما قلت " رحمها الله" لأنها انتحرت و لا تجوز عليها الرحمة... أي كلام هذا! و أتعجب ممن يفكر، ببساطة شديدة، في ما إذا كانت سالي ارتدت الحجاب أم تركته! أي غباء هذا! مالنا و حجابها؟ هذا بينها و بين خالقها. بحجاب أو بدون، هي سالي. إذا ارتدته فهذا اختيار يخصها و إذا تركته فهذا اختيار يخصها أيضاً، لا يُنقص من قدرها في شئ ما دامت تعي ما تفعل و اختارته بإرادتها. فأنا أؤمن تماما بحرية الصواب، و حرية الخطأ أيضا... فكلنا معلّق بخياراته و تبعاتها، و الحساب لله فقط. أزعجني كثيراً انتقاد الناس لها بعد موتها، بل و امتدت حلقة الإنتقاد و إصدار الأحكام لتصل إلى والدتها بعد ظهورها على شاشات التليفزيون لتروي ما حدث. فسكوتها كان منتقداً، لأن سالي لم تمت في ميدان التحرير و بالتالي لا تستحق لقب شهيدة، و كلامها كان منتقداً لأنه خالف توقعات البعض، أو لم يكن وافياً، أو لأنها تتحدث بهذا الشكل أو ذاك... أعجز تماماً عن التعليق على كل هذا الهراء.. لا أفكر سوى في سالي التي أعرفها و هي تهوي من شرفتها، و في والدتها التي شاهدت ذلك أمام عينها...


شهيدة، منتحرة، أو غير طائعة لأولي الأمر ( كما أفتى البعض) ما حدث لها كان قدر. و يكفي القدر قسوة أنه قدر... و أن لا حيلة لنا به.

رجاءاً، من أراد أن يقول شيئا عنها، فليقل خيراً... أو ليصمت.
 
 
نقلاً عن مدونة محمد سيد نجا
http://mohamdnagayahoocom.blogspot.com/2011/03/blog-post_7151.html